كأني بها وقد أقبلت على رسول الله
بخطىً ثابتة, وفؤادِ يرجف وجلاً وخشية, رمت بكل مقاييس البشر وموازينهم, تناست العار والفضيحة, لم تخشى الناس, أو عيون الناس, وماذا يقول الناس؟ أقبلت تطلب الموت, نعم تطلب الموت, فالموت يهون إن كان معه المغفرة والصفح, يهون إن كان بعده الرضا والقبول, يهون إن كان فيه إطفاء لحرقة الألم, ولسع المعصية, وتأنيب الضمير (يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني) عندها يشيح النبي
عنها بوجهه, فتقبل عليه وتقول: يا رسول الله أصبت حدًا فطهرني, أُراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك, فوالله إني حبلى من الزنا, فقال:
((اذهبي حتى تضعيه)) فولت والفرح يملأ قلبها, والسرور يخالط نفسها أن نجت من موت محقق؟ وردها رسول الله, كلا, بل لم يزل الهم يعترك في فؤادها وسياط الخوف تعلو هامة تفكيرها.
ويمر الشهر والشهر, والآلام تلد الآلام, فتأتي بوليدها تحمله: ها أنا ذا وضعته فطهرني يا رسول الله, فيقول البر الرحيم:
((اذهبي حتى ترضعيه فتفطميه)).فعادت بابنها الرضيع, فلو رأيتها ووليدها بين يديها, والناس يرقبونها عجبًا وإكبارًا, والشيطان يسول لها ويزين أن تلك فرصتك, وقد قمت بما عليك, والنبي
ردك مرارًا, وترجع به, وحولين كاملين, كلما ألقمته ثديها, أو ضمته إلى صدرها زاد تعلقها به وتعلقه بها, وحبها له, فهي أم, وللأم أسرار وأخبار.
وتدور السنة تعقبها سنة, وتأتي به في يده خبزة يأكلها, يا رسول الله قد فطمته فطهرني, عجبًا لها ولحالها! أي إيمانٍ هذا الذي تحمله, ما هذا الإصرار والعزم, ثلاث سنين تزيد أو تنقص, والأيام تتعاقب, والشهور تتوالى, وفي كل لحظة لها مع الألم قصة, وفي عالم المواجع رواية, فيدفع النبي
الصبي إلى رجل من المسلمين, ويؤمر بها فتدفن إلى صدرها ثم ترجم, فيطيش دم من رأسها على خالد بن الوليد, فسبها على مسمع من النبي
, فقال عليه الصلاة والسلام:
((والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه))[1].
إنه الخوف من الله, إنها خشية الله ترتقي بالنفوس فلا ترى لها قرارًا إلا بجوار الرحمن في جنة الرضوان.
إنها الخشية لم تزل بتلك المؤمنة حين وقعت في حبائل الشيطان, واستجابت له في لحظة ضعف, نعم أذنبت, ولكنها قامت من ذنبها بقلبٍ يملأه الإيمان, ونفسٍ لسعتها حرارة المعصية, نعم أذنبت ولكن قام في قلبها مقام التعظيم لمن عصت, فتحشرجت في صدرها سؤالات, كيف أعصيه وهو المنعم الخالق! كيف أعصيه وهو الرازق الواهب؟ كيف أعصيه وقد نهاني؟ كيف أعصيه وقد كساني وآواني؟! فلم تقنع إلا بالتطهير وإن كان طريقه إزهاق النفس وذهاب الحياة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيدهذا ما توعدون لكل أواب حفيظمن خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيبادخلوها بسلام ذلك يوم الخلودلهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد [ق: 31 ـ 35].
قال الحسن: "إن الرجل ليذنب الذنب فما ينساه, وما يزال متخوفًا منه حتى يدخل الجنة" رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيت رسول الله
مستجمعًا ضاحكًا حتى أرى منه لهواته, إنما كان يتبسم قالت: وكان إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرف ذلك في وجهه, فقالت: يا رسول الله, أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر, وأراك إذا رأيته عَرفتُ في وجهك الكراهية؟ فقال:
((يا عائشة, ما يُؤمنني أن يكون فيه عذاب, قد عُذب قوم بالريح, وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) [الأحقاف: 24]
[2].في مصنف ابن أبي شيبة عن العباس العِّميِّ رحمه الله قال: "بلغني أن داود عليه السلام قال: سبحانك تعاليت فوق عرشك, وجعلت خشيتك على من في السموات والأرض, فأقرب خلقك إليك أشدهم لك خشية, وما علم من لم يخشك؟ وما حكمة من لم يطع أمرك؟".
من خطبة للشيخ مازن التويجري